يتربع سوق (الراسترو) الشعبي على احدى مناطق مدريد التاريخية الأثرية مشكلا معلما تراثيا فريدا في اسبانيا ومنارة عريقة في القارة العجوز بما يحويه من مكونات جمالية وما يتداول فيه من سلع فريدة من نوعها وبضائع غنية في تنوعها وتميزها.
ويعد ذلك السوق الذي ينضم إلى معالم مدينة مدريد التاريخية ومتاحفها العريقة وحدائقها الغناء سوقا شعبيا لايزال مفعما بالحيوية والنشاط منذ نحو خمسة قرون وواحدا من اقدم أسواق اوروبا المفتوحة ومعلما تراثيا غريبا يثير الفضول والدهشة. وسوق (الراسترو) نشا بعفوية وتطور بشكل تدريجي في فوضى ساحرة غريبة التناقضات ويرتاده نحو 100 ألف شخص كل يوم أحد يجوبون شوارع الحي الذي يفترشه مايزيد عن 3500 (كشك) لبيع السلع من كل صنف ونوع ليكتسب حلة متعددة الالوان والاشكال تضج فيها الحركة والنشاط وتصدح فيها الاصوات والموسيقى من كل صوب.
ويقام (الراسترو) في احد احياء مدريد المركزية (امباخادوريس) القريبة من نهر (مانثاناريس) وترجع نشاته الى أواخر القرن ال 14 حين اتخذه باعة الملابس المستعملة مركزا لنشاطهم ثم اقيم فيه عام 1497 أول مسلخ تلاه بعد ذلك عدة مسالخ ومدابغ وجدت في تلك المنطقة موقعا استراتيجيا للقيام بمختلف الاعمال ولاسيما لكونه منطقة منخفضة من المدينة تدفقت فيها قنوات المياه في طريقها الى النهر المجاور.
ومن هنا تنبع اصول كلمة (راسترو) وفقا لقاموس (الاكاديمية الاسبانية الملكية) وقاموس (ماريا مولينر) ومعناها هو (الاثر الذي يتركه شيء ما أو شخص عند المرو بمكان ما..) في دلالة على اثر دماء المواشي بعد ذبحها وهو ما يؤكده عدد من المؤرخين فيما تشير تلك المعاجم أيضا الى كلمة (الراسترو) بانها سوق في شوارع مدريد يباع فيه كل انواع السلع المستخدمة والجديدة. وتدل الوثائق والمخطوطات التاريخية على ان عددا من مصانع الاحذية والأحزمة والعصي وغيرها من محال الملابس ومصانع المنتجات الشحم والشموع الى جانب المسالخ والمدابغ القائمة سابقا تقاسمت المنطقة منتصف القرن 17 فيما استقر فيها لاحقا وفي نهاية القرن ال 18 عدد من الطواحين والمخابز وباعة المنتجات الغذائية والمعدات تزامنا مع اصدار قرار اداري بمنع وجود المسالخ والمدابغ تجبنا لتلوث مياه النهر عام 1761. وحمل القرن 19 مزيدا من النشاط التجاري الى المنطقة ولاسيما بعد ان استقر فيها تجار الاثار والمجوهرات ومحال الكتب ومخازن بيع وشراء الاثاث المعتق والسلع الثمينة فيما اقيمت ايضا (البازارات) والمعارض لتكتسب المنطقة بشكل تدريجي ليكتسب السوق حلة جديدة مختلفة الجوهر والمظهر نجحت في جذب السكان المحليين والسياح على السواء وهي تلك الحلة التي يستطيع الزائر التمتع بها في زيارته للسوق حاليا.
وحاولت بلدية مدريد الحد من نشاط هذا السوق ونقله الى خارج المدينة في عدة مناسبات خلال القرنين 19 و20 لكن السوق ظل صامدا في مكانه وتابع رواده طقوس زيارته على عادتهم رغم الفوضى وقلة التنظيم.
وكانت البلدية اصدرت قرارا في عام 1984 بحظر النشاط التجاري سوى أيام الاحاد والعطلات الرسمية فيما أصدرت قرارا عام 2000 بمنع نقل (الراسترو) من مكانه معتبرة هذا السوق معلما تراثيا وحضاريا للمدينة. ويجد الزائر في (الراسترو) كل انواع السلع والادوات والاثاث المستخدم والجديد والاجهزة الالكترونية والمواد الغذائية والملابس الى جانب القطع الاثرية والتحف والمجوهرات والنوادر واصبح هذا السوق جزءا من الثقافة الاسبانية حيث تم ذكره في عدد من الاعمال الادبية والفنية السينمائية والموسيقية. ولا ينفك هذا السوق الشعبي الذي يحيي مكوناته الاف الباعة فجر كل يوم أحد يمثل تجربة فريدة لرواده الذين يتنقلون من (كشك) الى اخر تدفعهم الحاجة الى اقتناء بعض السلع او البحث عن النوادر والاشياء المتميزة والغريبة احيانا فيما لا يقودهم الا الفضول والرغبة في التعرف على هذا العالم الصغير الذي يعج بمزيج غريب من العراقة والفوضى والعفوية احيانا أخرى.