الكويت - تحتفل دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية غدا بالذكرى الثلاثين لتأسيس منظومة المجلس الذي يعد اليوم نموذجا راقيا للتعاون والتكامل والتنسيق بين ست دول كأنها جواهر تجمعت في عقد فريد لتغدو جوهرة واحدة مميزة يشار اليها بالبنان في عالمنا المعاصر.
ففي 25 مايو 1981 أعلن قادة دول كل من المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية ودولة الكويت ودولة البحرين ودولة قطر وسلطنة عمان في اجتماعهم الذي عقد في العاصمة الاماراتية أبوظبي إنشاء منظومة تجمع الدول الست تحت مسمى (مجلس التعاون لدول الخليج العربية).
ولم يكن مجلس التعاون الخليجي - الذي يعود الى امير دولة الكويت الراحل المغفور له باذن الله الشيخ جابر الاحمد الجابر الصباح الفضل في طرح فكرة تأسيسه - وليد فكرة عابرة انما هو رد فعل طبيعي لما يربط بين دوله الست من علاقات اجتماعية خاصة ومميزة وسمات دينية وثقافية وبيئية مشتركة وأنظمة حكم متشابهة أساسها العقيدة الاسلامية وغايتها تحقيق مستقبل أفضل لشعوبها.
ومنذ اللحظة الاولى لقيام مجلس التعاون أدرك قادة دول المجلس الست حجم التحديات التي يواجهونها في ظل المتغيرات الاقليمية والدولية فتوجهت جهودهم نحو العمل على تحقيق التكامل والترابط بين دول المجلس في جميع الميادين وبخاصة السياسية والاقتصادية منها.
ولعل من أهم التحديات السياسية والأمنية التي واجهت منظومة مجلس التعاون واعتبرها البعض امتحانا لقدرة المجلس على الاستمرار والنجاح تمثل في الغزو العراقي لدولة الكويت عام 1990 وما شكله من تهديد ليس فقط للكويت وانما لبقية دول المجلس ومن هذا المنطلق كان تحرك منظومة مجلس التعاون متوازيا في العديد من الاتجاهات.
فعلى الصعيد السياسي سارع المجلس منذ الساعات الأولى للعدوان العراقي على الكويت بالتنديد والمطالبة بالانسحاب الفوري للقوات المعتدية دون قيد أو شرط كما أثمر الاجتماع الطارىء الذي عقده وزراء خارجية دول المجلس في القاهرة يوم 3 أغسطس 1990 الدعوة الى قمة عربية طارئة في العاشر من الشهر نفسه لمناقشة تداعيات العدوان العراقي.
ولم تتوقف دول المجلس عند هذا الحد فقام قادة دول مجلس التعاون في ديسمبر 1990 بعقد قمتهم ال11 في العاصمة القطرية الدوحة والتي اكدوا من خلالها رفضهم التام للعدوان ووقوفهم اللامحدود مع دولة الكويت قيادة وشعبا حتى تستعيد سيادتها التامة على أراضيها.
أما على الصعيد الدبلوماسي فقد لعب مجلس التعاون دورا فاعلا في الوقوف مع القضية الكويتية أمام المحافل الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن لتتوج جهوده في استصدار العديد من القرارات المهمة بدءا من القرار 660 القاضي بانسحاب القوات العراقية الغازية فورا دون قيد أو شرط ومرورا بالقرار التاريخي 678 الذي أجاز استخدام جميع الوسائل التي تكفل إعادة السلم والامن الى المنطقة.
وفي هذه المرحلة الحاسمة توجهت جهود دول مجلس التعاون نحو تحقيق واحد من أهم أهداف قيام منظومة مجلس التعاون وهو الحفاظ على أمن وسيادة الدول الأعضاء وظهرت واحدة من أروع صور التلاحم والتضحية بين دول المجلس عندما سالت دماء أبنائه على ثرى الكويت مشاركين ببسالة في حرب تحريرها من العدوان العراقي.
ولم تكن أزمة الكويت هي التحدي الأخير الذي واجه منظومة مجلس التعاون وإن كان أقواها.. فالاطماع الخارجية تحيط بدوله من كل جانب مما يستوجب معه وقفة جادة وموقفا ثابتا كما هو الحال مع قضية الجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وابو موسى والتي أكد المجلس ولا يزال على دعم حق السيادة لدولة الامارات على جزرها الثلاث وعلى المياه الاقليمية والاقليم الجوي والجرف القاري باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الامارات العربية المتحدة ودعوة جمهورية ايران الاسلامية للاستجابة لمساعي دولة الامارات لحل القضية عن طريق المفاوضات المباشرة أو اللجوء الى محكمة العدل الدولية.
ومرة أخرى واجه مجلس التعاون الخليجي تحديا سياسيا وأمنيا استهدف احد أعضاء جسده الكبير فتداعت له باقي الاعضاء بالرعاية والاهتمام والموقف الصارم حتى استعاد قواه. فما تعرضت له مملكة البحرين اخيرا من أحداث مؤسفة أدت الى زعزعة أمنها وترويع المواطنين والمقيمين فيها دعا وزراء خارجية دول مجلس التعاون في الرابع من ابريل الماضي الى عقد اجتماع طارىء في العاصمة السعودية الرياض أعلنوا من خلاله وقوفهم صفا واحدا في مواجهة اي خطر تتعرض له اي من دول المجلس معتبرين أن أمن واستقرار دول المجلس كل لا يتجزأ بمقتضى اتفاقات التعاون الدفاعية المشتركة بين دول المجلس.
هذا الاعلان الواضح والموقف القاطع من دول المجلس دفع بمملكة البحرين الى ترجمة الأقوال الى أفعال من خلال طلبها المساعدة العسكرية من قوات درع الجزيرة المشتركة والتي لبت النداء انطلاقا من مبدأ وحدة المصير وترابط أمن دول مجلس التعاون.
ومن التحديات ننتقل الى الانجازات ولعل سياق الحديث يدفعنا الى التوقف عند التعاون العسكري أولا حيث حظي هذا الجانب باهتمام ورعاية أصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون منذ انطلاقة عمل المجلس.. ففي نوفمبر 1982 قرر المجلس الأعلى في دورته الثالثة التي عقدت في العاصمة البحرينية المنامة الموافقة على إنشاء قوة درع الجزيرة.
وتم العمل على دراسة سبل تطوير هذه القوة حتى كان عام 2000 عندما وقع قادة دول المجلس خلال الدورة ال21 التي استضافتها المنامة أيضا على اتفاقية الدفاع المشترك لمجلس التعاون لدول الخليج العربية.
واستكمالا لعمل المنظومة الدفاعية لدول المجلس من جميع جوانبها بارك قادة دول مجلس التعاون في اجتماعات دورتهم ال26 التي استضافتها العاصمة الاماراتية ابوظبي في ديسمبر 2005 مقترح خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز "بتطوير قوة درع الجزيرة الى قوات درع الجزيرة المشتركة وذلك حتى تتمكن من مواكبة التطورات والمتغيرات الدولية".
ومثلما حقق مجلس التعاون هذا الانجاز المتميز على صعيد التعاون العسكري والدفاعي فان للمجلس أيضا انجازات مهمة ومختلفة على كافة الأصعدة الاقتصادية والقانونية والبيئية والاعلامية الى جانب عدد من المشاريع التي هي قيد الدراسة أو الانجاز والتي إذا ما تحققت بصورة كاملة فسوف يكون لها دور ايجابي في خدمة مواطني دول مجلس التعاون من أبرزها البطاقة الذكية ومشروع سكة الحديد لربط دول المجلس.
ومن أبرز انجازات مجلس التعاون الخليجي على الصعيد الاقتصادي قيام الاتحاد الجمركي في يناير 2003 والذي يهدف الى تحرير التجارة بين دول المجلس من خلال توحيد التكلفة الجمركية وإزالة معوقات التبادل التجاري وتوحيد اجراءات الاستيراد والتصدير ومعاملة المنطقة الجغرافية للدول الست الاعضاء كمنطقة جمركية واحدة.
وعلى غرار السوق الاوروبية المشتركة اعتمد قادة دول مجلس التعاون في اجتماعات دورتهم ال28 التي استضافتها العاصمة القطرية الدوحة في ديسمبر 2007 قيام السوق الخليجية المشتركة مدشنين بذلك عهدا جديدا من التكامل الاقتصادي القائم على مبدأ المواطنة الخليجية.
وفي ذلك قال الأمين السابق لمجلس التعاون الخليجي عبدالرحمن بن حمد العطية "ان السوق الخليجية المشتركة تسعى الى تحقيق المساواة وتوحيد المعاملة بين كافة أبناء دول المجلس بحيث يتمتع المواطنون والمواطنات في دول المجلس بنفس المعاملة الوطنية في أي دولة من الدول الاعضاء وذلك من خلال عشرة مسارات حددتها الاتفاقية الاقتصادية الموحدة وهي التنقل والاقامة والعمل في القطاعات الحكومية والأهلية والتأمين الاجتماعي والتقاعد وممارسة المهن والحرف ومزاولة جميع الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية والخدمية وتملك العقار وتنقل رؤوس الاموال والمعاملة الضريبية وتداول وشراء الأسهم وتأسيس الشركات والاستفادة من الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية".
ومن المشاريع الاقتصادية الى المشاريع الخدمية حيث دشن قادة دول مجلس التعاون في قمتهم الثلاثين التي عقدت في الكويت عام 2009 مشروع الربط الكهربائي الموحد بين دول المجلس.
وفي الدورة نفسها وافق قادة دول مجلس التعاون على استكمال دراسة مشروع سكة حديد دول المجلس مع دراسة إنشاء هيئة للاشراف على تنفيذ المشروع وتفويض لجنة التعاون المالي والاقتصادي باعتماد المبالغ المطلوبة لاعداد الدراسات الاستشارية الخاصة بالمشروع.
إن تلك الانجازات ما هي إلا غيض من فيض ما استطاع مجلس التعاون تحقيقه على مدى الثلاثين عاما.. فالآمال كبيرة والطموحات واسعة وشعوب الدول الست تتلهف الى يوم تتحقق فيه الوحدة الخليجية الكاملة وما ذلك اليوم ببعيد